جماليات التشكيل الإيقاعي في القصيدة العربية الحديثة
جماليات التشكيل الإيقاعي
في القصيدة العربية الحديثة
تمثل الحركة والتنظيم الأساس الذي يتولد منه الإيقاع، وإذا كانت الضربة والسكون يمثلان جانبا مهما من الإيقاع في الموسيقى، فإن مادة الإيقاع في الشعر تتحدد بطبيعة الوحدة الصوتية «الحرف والحركة »، إذ تشتمل الوحدات الصوتية على إمكانات إيقاعية كامنة يتم تفجيرها في سياق إيقاعي يشتمل على عنصري الحركة والتنظيم معا، بمعنى أن الشعر» يستمد موسيقاه من مادة صياغته وهي اللغة « [1]ولا يعني هذا أنَّ الإيقاع » لا يتألف من الحركة مطلقة بلا قيد ولا شرط ... الإيقاع يمتاز ... بالنظام « [2] ويخضع هذا النظام لتردد الوحدات الصوتية » على مسافات زمنية متساوية أو متقابلة داخل الوحدة الموسيقية، وقد تكون هذه الظاهرة صمتا خفيفا أو سكونا أو حركة معينة « [3] .
إن الحركة والنظام قد يتوافران في مكونات لغوية عديدة، غير أن هذه المكونات لا تقدم إيقاعا فنيا لخلوها من قيمة التناسب، » والتناسب هو أن تتفق العناصر في الوزن فتكون بالنسب اللازمة لا تزيد عليها ولا تنقص وفي النظام يحسن التآلف وكمال الانسجام، فالتناسب هو اعتدال النسب وتكافؤها به ي**ب الإيقاع ثوب الروعة والجمال ويرتقي الفن إلى أسمى درجات الكمال « [4] ويؤكد محمد العياشي أن الغاية من هذا كله تحقيق ثمرتين هما القيمة الجمالية والقيمة التعبيرية، أي أن » جمال الإيقاع مستفاد من تناسب العناصر في وزنها وحركتها وشكل نظامها « فضلا عن قدرة الإيقاع على التعبير والتصوير والتأثير .[5]
ولا بد من التمييز بين نمطين من الإيقاع : إيقاع بسيط يتميز بالرتابة والتكرار ،ويتجلى ذلك في نبض القلب ودقات الساعة، ونمط مركب بالغ التعقيد يتجلى في الشعر، ويحدد علي يونس فوارق بين النمطين على النحو التالي :
أ ـ فالعلاقة بين العناصر في النوع الأول ظاهرة بسيطة يسهل قياسها، أماني النوع الثاني فهي أخفى وأكثر تركيبا .
ب ـ والعلاقات في النوع الأول توشك أن تكون حسية خالصة، ولهذا لا يتفاوت الناس في إدراكها وإن تفاوتوا في الثقافة أو العمر أو غير ذلك، بل أن من صور هذا الإيقاع ما يدركه بعض الحيوان وينفعل له .
أما العلاقات في النوع الثاني فهي عقلية حسية، ولا تكفي الحواس لإدراكها، بل تحتاج كذلك إلي الفكر، ولذلك يتفاوت الناس في فهمها وتذوقها وتقديرها ولا بد أن تتوافر في متلقيها درجة من النضج والعقلي والثقافي .
ج ـ والعلاقات بين العناصر في النوع الأول تنتظم انتظاما تاما أو شبه تام، أما في النوع الثاني فتجمع بوضوح بين النسق والخروج على النسق .[6]
2
ان الشعر لا يغير الوحدات الصوتية للغة، أو الألفاظ التي تتركب منها، ولا يغير من التراكيب، ولكن الشعر ينظم هذه كلها بطريقة خاصة مختلفة، لدرجة يصدق معها القول إن الشعر يمثل ظاهرة » ذات بنية أشد تعقيدا « [7]، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك تمايزا واضحا ـ والوضوح هنا لا يعني أهميته أو تبنيه ـ بين الشعر والنثر يتجلى بداهة في كيفية أدائيهما، وكيفية رسمهما، إذ اعتاد العرب قديما وحديثا تأدية النثر بكيفية تختلف عن الشعر، ولذا نقول : قرأ مقالة، أو رسالة، أو رواية، وانشد قصيدة، ولذلك فإن » الإنشاد عند الأداء إبراز الإيقاع « [8] .
ان كتابة الشعر تختلف وتتباين عن كتابة النثر، إذ بمجرد رؤية فضاء النص نستدل على ان هذا شعر أو نثر، غير أن تحديدا علميا يميز الشعر عن النثر هو التمايز الإيقاعي، أي انه يغلب عليه الانتظام » وهو النظام الذي يحكم عدد المقاطع وأنواعها ) من حيث هي قصيرة أو طويلة أو زائدة الطول ( وترتيبها « [9] .
وفي ضوء هذا فإن الشعر ليس قسيما أو مقابلا للنثر كما انه ليس خرقا أو انتهاكا له ـ بل هو خرق للكلام العادي ـ انه تشكيل جديد يمثل خلقا ليس بالقياس الى شيء موجود مسبقا، وإنما له استقلاله الذي يتجاور معه، ويختلف عنه في آن، أن النثر هو الآخر خرق وانتهاك متعمد للكلام العادي .
3
أقام الخليل بن أحمد الفراهيدي نظريته في الإيقاع على أساس المتحرك والساكن، وقام باستقراء ناقص للشعر العربي، أسس في ضوئه القواعد المعيارية للعروض العربي، وهي النظرية الإيقاعية المهيمنة، ومن الجدير بالذكر ان هناك نصوصا شعرية عديدة خارجه على هذه النظرية، منها جاهلية : لعبيد بن الأبرص وامريء القيس والنابغة .
إن نظرية الإيقاع الخليلية تحكمها فرضيات ذهنية سابقة تصنف الموضوعات وتحددها، وهي جزء من نظرة شمولية تستشري في مجمل النشاط اللغوي والموسيقي، ولقد أسهمت الأسس المنطقية في تدعيم هذه الفرضيات وتأكيد أهميتها وجدواها، وتتحدد الأصول المنطقية في ضوء القياس القائم على : اصل، وفرع، وعله، وحكم، ولذلك لاحظنا اللغويين يحددون أصولا تمثل أساسا ويقيسون عليها الفروع، ويمثل الأصل الأساس وتتولد عنه الفروع . ويصدق هذا على نظرية الخليل العروضية التي أقامت فرضيات مسبقة تتحدد في الدوائر العروضية التي تشتمل الواحدة منها على بحور مستعملة وأخرى مهملة، وان بعض هذه البحور المستعملة لها أساس نظري ليس له وجود في واقع الشعر، ولذلك برر العروضيون مثلا ان هذا البحر لم يرد تاما في الشعر على الرغم من انه في دائرته العروضية ـ وهي فرضية مسبقة ـ ورد تاما . ان العروضيين » افترضوا ... أوزانا » مثالية « لا وجود لها في الواقع الشعري، وافترضوا ان بعض الأوزان الحقيقية صور مشتقة من هذه الأوزان المثالية . ويتضح ذلك إذا قارنا بين صورة » المديد « في الدائرة، وصورته في الشعر وكذلك الوافر والهزج والرمل والسريع والمنسرح والمجتث«[10].
ان الدرس العروضي بقي معياريا ومتخلفا عن تتبع حركة التطور الإيقاعي في العصور المختلفة لان » العروضيين القدماء أقاموا بناء فكريا بعيدا عن الزمان والمكان، فلا هو يمثل أوزان العرب القدماء، التي زادوا ونقصوا فيها، ولا هو يمثل أوزان المحدثين التي أنكروها واهملوها « [11].
ولقد واجهت قواعد الخليل العروضية نقدا يتفاوت في حدته، ويبدو ان ادونيس اكثر هذه الأصوات قساوة إذ يرى أن الإيقاع الخليلي يقدم » لذة للأذن اكثر مما يقدم خدمة للفكر « [12] وان قواعده » الزامات كيفية تقتل دفقة الخلق أو تعيقها أو تقسرها، فهي تجبر الشاعر أحيانا ان يضحي بأعمق حدوسه الشعرية في سبيل مواصفات وزنية كعدد التفعيلات والقافية « [13] .ان نظرية الإيقاع الخليلية تصل درجة القداسة لدى عدد من الدارسين وان مناقشتها أو هدمها لا يقل في خطورته عن هدم مقدس، ويبدو لي ان هذا هو الذي دفع أدونيس الى القول بان » الرؤية الخليلية لفن الشعر ترجمه دقيقة للرؤية الدينية . كانت بينهما مطابقة شبه كاملة : أخضعت القواعد والأشكال لمبدأ مطلق وثابت تماما « [14]
4
يحاول بعض الدارسين من القدامى والمحدثين ان يسم كل بحر من البحور الشعرية بسمات معينة تحدد ماهيته وطبيعته ومن ثم يكون ملائما لغرض دون آخر، وتتجلى ملامح ذلك عنده حازم القرطاجني من القدامى مثلا [15] وعند المحدثين مثل: البستاني، وعبد الحميد الراضي، والعياشي، وأتوقف لمجرد الإشارة عند عبد الله الطيب المجذوب الذي قسم الأوزان الشعرية الى البحور الصعبة : كالمديد، والبحور المضطربة :كالسريع، والبحور القصار : كالمجتث والمضارع، والبحور الشهوانية : كالمقتضب . ويصف البحور القصار مثلا بأنها » لا يصلح فيها النظم إلا لمجرد الدندنة والترويح عن النفس بجرس الألفاظ« [16]، ويقول عن البحور الشهوانية إن » نغماتها لا تكاد تصلح الا للكلام الذي قصد منه قبل كل شيء ان يتغنى به في مجالس السكر والرقص المتهتك المخنث «[17] ولم يقتصر المجذوب على هذا الوصف المعياري الثابت للأوزان الشعرية بعامة ولكنه وصف البحور الشعرية بأحكام انطباعية محولا إياها الى معايير ثابتة، فهو يقول عن المديد بان فيه» صلابة ووحشية وعنف، تناسب هذا النوع من الشعر . ولا يستبعد أن تكون تفعيلاته قد اقتبست في الأصل من قرع الطبول التي كانت تدق في الحرب « [18] ويقول عن الخبب بأنه » بحر دنيء للغاية وكله جلبة وضجيج « [19] ويقول عن الرمل إن فيه » رقه وعذوبة مع ما فيه من الأسى « [20] ويقول » ومع الت**ر والرقص والتثني تجد في المنسرح لونا جنسيا يشبه لون المتقارب المجزوء«[21] .
ان محاولة الربط بين البحور الشعرية ومعانيها وأغراضها الشعرية أمر تبطله النصوص نفسها، لان مواقف الشعراء وتجاربهم الشعورية وحالتهم الانفعالية تتفاوت وتختلف على الرغم من استخدامهم الأوزان الشعرية نفسها، ولذلك فإن الوزن الشعري يمثل إيقاعا عاما يلونه الشاعر بتجربته الشعورية، ويخضعه لانفعاله فيتلون بخصوصيته، ولذلك فليس هناك وزن شعري جنسي مثلا واخر دنيء أو صلب .
5
تصدر نازك الملائكة في تصوراتها عن التجديد في الشعر العربي الى أمرين : أحدهما : معرفتها بالعروض العربي، وثانيهما : قراءتها للشعر الإنجليزي، غير أن المعرفة والقراءة هاتين لم تخرجا على الأصول العربية، لأن شعر التفعيلة على الرغم من اختلافه عن شعر الشطرين فإنهما يتماثلان في مزايا وعيوب، وإنهما جميعا لا يخرجان عن أصول عروضية معروفة، ولذلك أكدت نازك الملائكة » أن شعرنا الجديد مستمد من عروض الخليل بن أحمد قائم على أساسه « [22]، غاية ما في الأمر أن حركة شعر التفعيلة استعانت ببعض تفاصيل العروض القديم على » إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال « [23]. إن نازك الملائكة لا تنبذ شعر الشطرين ولا تهدف الى القضاء على أوزان الخليل وإنما ترمي الى » أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه الى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة « [24]
وتمايز نازك الملائكة بين نظام الشطرين ونظام التفعيلة، لأن نظام الشطرين يلزم الشاعر بنظامي الصدر والعجز، وان الشاعر لا بد أن يقف في البحور الستة عشر » عند نهاية الشطر الثاني وقفة صارمة لا مهرب منها فتنتهي الألفاظ وينتهي المعنى « [25]، إن نظام الشطرين عند نازك الملائكة يفرض قيودا هندسية صارمة على الشاعر لأن » الأشطر المتساوية والوحدات المعزولة لا بد أن تفرض، على المادة المصبوبة، شكلا مماثلا يملك عين الانضغاط وتساوي المسافات . أو لنقل أن هندسة الشكل، لا بد أن تفرض هندسة مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل « [26] أما نظام التفعيلة فإنه يتمرد على نظام الشطرين هذا أولا، ويعتمد التفعيلة ثانيا، ويتعمد ثالثا » تحطيم استقلال الشطر تحطيما كاملا « [27]، وهذا لا يعني أنه ليس هناك من وقفات صارمة يفرضها الإيقاع والمعنى في نهاية كل شطر ،لأن شعر التفعيلة لا يلزم الشاعر » أن ينهي المعنى والإعراب عند آخر الشطر ،وإنما يجعل من حقه أن يمدهما الى الشطر الثاني أو ما بعده « [28] .
جماليات التشكيل الإيقاعي
في القصيدة العربية الحديثة
تمثل الحركة والتنظيم الأساس الذي يتولد منه الإيقاع، وإذا كانت الضربة والسكون يمثلان جانبا مهما من الإيقاع في الموسيقى، فإن مادة الإيقاع في الشعر تتحدد بطبيعة الوحدة الصوتية «الحرف والحركة »، إذ تشتمل الوحدات الصوتية على إمكانات إيقاعية كامنة يتم تفجيرها في سياق إيقاعي يشتمل على عنصري الحركة والتنظيم معا، بمعنى أن الشعر» يستمد موسيقاه من مادة صياغته وهي اللغة « [1]ولا يعني هذا أنَّ الإيقاع » لا يتألف من الحركة مطلقة بلا قيد ولا شرط ... الإيقاع يمتاز ... بالنظام « [2] ويخضع هذا النظام لتردد الوحدات الصوتية » على مسافات زمنية متساوية أو متقابلة داخل الوحدة الموسيقية، وقد تكون هذه الظاهرة صمتا خفيفا أو سكونا أو حركة معينة « [3] .
إن الحركة والنظام قد يتوافران في مكونات لغوية عديدة، غير أن هذه المكونات لا تقدم إيقاعا فنيا لخلوها من قيمة التناسب، » والتناسب هو أن تتفق العناصر في الوزن فتكون بالنسب اللازمة لا تزيد عليها ولا تنقص وفي النظام يحسن التآلف وكمال الانسجام، فالتناسب هو اعتدال النسب وتكافؤها به ي**ب الإيقاع ثوب الروعة والجمال ويرتقي الفن إلى أسمى درجات الكمال « [4] ويؤكد محمد العياشي أن الغاية من هذا كله تحقيق ثمرتين هما القيمة الجمالية والقيمة التعبيرية، أي أن » جمال الإيقاع مستفاد من تناسب العناصر في وزنها وحركتها وشكل نظامها « فضلا عن قدرة الإيقاع على التعبير والتصوير والتأثير .[5]
ولا بد من التمييز بين نمطين من الإيقاع : إيقاع بسيط يتميز بالرتابة والتكرار ،ويتجلى ذلك في نبض القلب ودقات الساعة، ونمط مركب بالغ التعقيد يتجلى في الشعر، ويحدد علي يونس فوارق بين النمطين على النحو التالي :
أ ـ فالعلاقة بين العناصر في النوع الأول ظاهرة بسيطة يسهل قياسها، أماني النوع الثاني فهي أخفى وأكثر تركيبا .
ب ـ والعلاقات في النوع الأول توشك أن تكون حسية خالصة، ولهذا لا يتفاوت الناس في إدراكها وإن تفاوتوا في الثقافة أو العمر أو غير ذلك، بل أن من صور هذا الإيقاع ما يدركه بعض الحيوان وينفعل له .
أما العلاقات في النوع الثاني فهي عقلية حسية، ولا تكفي الحواس لإدراكها، بل تحتاج كذلك إلي الفكر، ولذلك يتفاوت الناس في فهمها وتذوقها وتقديرها ولا بد أن تتوافر في متلقيها درجة من النضج والعقلي والثقافي .
ج ـ والعلاقات بين العناصر في النوع الأول تنتظم انتظاما تاما أو شبه تام، أما في النوع الثاني فتجمع بوضوح بين النسق والخروج على النسق .[6]
2
ان الشعر لا يغير الوحدات الصوتية للغة، أو الألفاظ التي تتركب منها، ولا يغير من التراكيب، ولكن الشعر ينظم هذه كلها بطريقة خاصة مختلفة، لدرجة يصدق معها القول إن الشعر يمثل ظاهرة » ذات بنية أشد تعقيدا « [7]، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك تمايزا واضحا ـ والوضوح هنا لا يعني أهميته أو تبنيه ـ بين الشعر والنثر يتجلى بداهة في كيفية أدائيهما، وكيفية رسمهما، إذ اعتاد العرب قديما وحديثا تأدية النثر بكيفية تختلف عن الشعر، ولذا نقول : قرأ مقالة، أو رسالة، أو رواية، وانشد قصيدة، ولذلك فإن » الإنشاد عند الأداء إبراز الإيقاع « [8] .
ان كتابة الشعر تختلف وتتباين عن كتابة النثر، إذ بمجرد رؤية فضاء النص نستدل على ان هذا شعر أو نثر، غير أن تحديدا علميا يميز الشعر عن النثر هو التمايز الإيقاعي، أي انه يغلب عليه الانتظام » وهو النظام الذي يحكم عدد المقاطع وأنواعها ) من حيث هي قصيرة أو طويلة أو زائدة الطول ( وترتيبها « [9] .
وفي ضوء هذا فإن الشعر ليس قسيما أو مقابلا للنثر كما انه ليس خرقا أو انتهاكا له ـ بل هو خرق للكلام العادي ـ انه تشكيل جديد يمثل خلقا ليس بالقياس الى شيء موجود مسبقا، وإنما له استقلاله الذي يتجاور معه، ويختلف عنه في آن، أن النثر هو الآخر خرق وانتهاك متعمد للكلام العادي .
3
أقام الخليل بن أحمد الفراهيدي نظريته في الإيقاع على أساس المتحرك والساكن، وقام باستقراء ناقص للشعر العربي، أسس في ضوئه القواعد المعيارية للعروض العربي، وهي النظرية الإيقاعية المهيمنة، ومن الجدير بالذكر ان هناك نصوصا شعرية عديدة خارجه على هذه النظرية، منها جاهلية : لعبيد بن الأبرص وامريء القيس والنابغة .
إن نظرية الإيقاع الخليلية تحكمها فرضيات ذهنية سابقة تصنف الموضوعات وتحددها، وهي جزء من نظرة شمولية تستشري في مجمل النشاط اللغوي والموسيقي، ولقد أسهمت الأسس المنطقية في تدعيم هذه الفرضيات وتأكيد أهميتها وجدواها، وتتحدد الأصول المنطقية في ضوء القياس القائم على : اصل، وفرع، وعله، وحكم، ولذلك لاحظنا اللغويين يحددون أصولا تمثل أساسا ويقيسون عليها الفروع، ويمثل الأصل الأساس وتتولد عنه الفروع . ويصدق هذا على نظرية الخليل العروضية التي أقامت فرضيات مسبقة تتحدد في الدوائر العروضية التي تشتمل الواحدة منها على بحور مستعملة وأخرى مهملة، وان بعض هذه البحور المستعملة لها أساس نظري ليس له وجود في واقع الشعر، ولذلك برر العروضيون مثلا ان هذا البحر لم يرد تاما في الشعر على الرغم من انه في دائرته العروضية ـ وهي فرضية مسبقة ـ ورد تاما . ان العروضيين » افترضوا ... أوزانا » مثالية « لا وجود لها في الواقع الشعري، وافترضوا ان بعض الأوزان الحقيقية صور مشتقة من هذه الأوزان المثالية . ويتضح ذلك إذا قارنا بين صورة » المديد « في الدائرة، وصورته في الشعر وكذلك الوافر والهزج والرمل والسريع والمنسرح والمجتث«[10].
ان الدرس العروضي بقي معياريا ومتخلفا عن تتبع حركة التطور الإيقاعي في العصور المختلفة لان » العروضيين القدماء أقاموا بناء فكريا بعيدا عن الزمان والمكان، فلا هو يمثل أوزان العرب القدماء، التي زادوا ونقصوا فيها، ولا هو يمثل أوزان المحدثين التي أنكروها واهملوها « [11].
ولقد واجهت قواعد الخليل العروضية نقدا يتفاوت في حدته، ويبدو ان ادونيس اكثر هذه الأصوات قساوة إذ يرى أن الإيقاع الخليلي يقدم » لذة للأذن اكثر مما يقدم خدمة للفكر « [12] وان قواعده » الزامات كيفية تقتل دفقة الخلق أو تعيقها أو تقسرها، فهي تجبر الشاعر أحيانا ان يضحي بأعمق حدوسه الشعرية في سبيل مواصفات وزنية كعدد التفعيلات والقافية « [13] .ان نظرية الإيقاع الخليلية تصل درجة القداسة لدى عدد من الدارسين وان مناقشتها أو هدمها لا يقل في خطورته عن هدم مقدس، ويبدو لي ان هذا هو الذي دفع أدونيس الى القول بان » الرؤية الخليلية لفن الشعر ترجمه دقيقة للرؤية الدينية . كانت بينهما مطابقة شبه كاملة : أخضعت القواعد والأشكال لمبدأ مطلق وثابت تماما « [14]
4
يحاول بعض الدارسين من القدامى والمحدثين ان يسم كل بحر من البحور الشعرية بسمات معينة تحدد ماهيته وطبيعته ومن ثم يكون ملائما لغرض دون آخر، وتتجلى ملامح ذلك عنده حازم القرطاجني من القدامى مثلا [15] وعند المحدثين مثل: البستاني، وعبد الحميد الراضي، والعياشي، وأتوقف لمجرد الإشارة عند عبد الله الطيب المجذوب الذي قسم الأوزان الشعرية الى البحور الصعبة : كالمديد، والبحور المضطربة :كالسريع، والبحور القصار : كالمجتث والمضارع، والبحور الشهوانية : كالمقتضب . ويصف البحور القصار مثلا بأنها » لا يصلح فيها النظم إلا لمجرد الدندنة والترويح عن النفس بجرس الألفاظ« [16]، ويقول عن البحور الشهوانية إن » نغماتها لا تكاد تصلح الا للكلام الذي قصد منه قبل كل شيء ان يتغنى به في مجالس السكر والرقص المتهتك المخنث «[17] ولم يقتصر المجذوب على هذا الوصف المعياري الثابت للأوزان الشعرية بعامة ولكنه وصف البحور الشعرية بأحكام انطباعية محولا إياها الى معايير ثابتة، فهو يقول عن المديد بان فيه» صلابة ووحشية وعنف، تناسب هذا النوع من الشعر . ولا يستبعد أن تكون تفعيلاته قد اقتبست في الأصل من قرع الطبول التي كانت تدق في الحرب « [18] ويقول عن الخبب بأنه » بحر دنيء للغاية وكله جلبة وضجيج « [19] ويقول عن الرمل إن فيه » رقه وعذوبة مع ما فيه من الأسى « [20] ويقول » ومع الت**ر والرقص والتثني تجد في المنسرح لونا جنسيا يشبه لون المتقارب المجزوء«[21] .
ان محاولة الربط بين البحور الشعرية ومعانيها وأغراضها الشعرية أمر تبطله النصوص نفسها، لان مواقف الشعراء وتجاربهم الشعورية وحالتهم الانفعالية تتفاوت وتختلف على الرغم من استخدامهم الأوزان الشعرية نفسها، ولذلك فإن الوزن الشعري يمثل إيقاعا عاما يلونه الشاعر بتجربته الشعورية، ويخضعه لانفعاله فيتلون بخصوصيته، ولذلك فليس هناك وزن شعري جنسي مثلا واخر دنيء أو صلب .
5
تصدر نازك الملائكة في تصوراتها عن التجديد في الشعر العربي الى أمرين : أحدهما : معرفتها بالعروض العربي، وثانيهما : قراءتها للشعر الإنجليزي، غير أن المعرفة والقراءة هاتين لم تخرجا على الأصول العربية، لأن شعر التفعيلة على الرغم من اختلافه عن شعر الشطرين فإنهما يتماثلان في مزايا وعيوب، وإنهما جميعا لا يخرجان عن أصول عروضية معروفة، ولذلك أكدت نازك الملائكة » أن شعرنا الجديد مستمد من عروض الخليل بن أحمد قائم على أساسه « [22]، غاية ما في الأمر أن حركة شعر التفعيلة استعانت ببعض تفاصيل العروض القديم على » إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال « [23]. إن نازك الملائكة لا تنبذ شعر الشطرين ولا تهدف الى القضاء على أوزان الخليل وإنما ترمي الى » أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه الى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة « [24]
وتمايز نازك الملائكة بين نظام الشطرين ونظام التفعيلة، لأن نظام الشطرين يلزم الشاعر بنظامي الصدر والعجز، وان الشاعر لا بد أن يقف في البحور الستة عشر » عند نهاية الشطر الثاني وقفة صارمة لا مهرب منها فتنتهي الألفاظ وينتهي المعنى « [25]، إن نظام الشطرين عند نازك الملائكة يفرض قيودا هندسية صارمة على الشاعر لأن » الأشطر المتساوية والوحدات المعزولة لا بد أن تفرض، على المادة المصبوبة، شكلا مماثلا يملك عين الانضغاط وتساوي المسافات . أو لنقل أن هندسة الشكل، لا بد أن تفرض هندسة مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل « [26] أما نظام التفعيلة فإنه يتمرد على نظام الشطرين هذا أولا، ويعتمد التفعيلة ثانيا، ويتعمد ثالثا » تحطيم استقلال الشطر تحطيما كاملا « [27]، وهذا لا يعني أنه ليس هناك من وقفات صارمة يفرضها الإيقاع والمعنى في نهاية كل شطر ،لأن شعر التفعيلة لا يلزم الشاعر » أن ينهي المعنى والإعراب عند آخر الشطر ،وإنما يجعل من حقه أن يمدهما الى الشطر الثاني أو ما بعده « [28] .
الأربعاء مارس 02, 2011 2:41 pm من طرف الكومبل
» علاقم المسيح الدجال ومثلث رمودا بل ايات القرانية واللة اعلم
الأربعاء مارس 02, 2011 2:35 pm من طرف الكومبل
» أصل اللغة العربية وتطورها
السبت يونيو 13, 2009 12:09 pm من طرف Admin
» سعيد بن عامر الجمحي
الأربعاء يناير 28, 2009 7:03 pm من طرف weboo
» روائع الأخلاق
الأربعاء يناير 28, 2009 6:17 pm من طرف weboo
» (( خبيب بن عدي))
الأربعاء يناير 28, 2009 5:37 pm من طرف weboo
» المنقب القرآنى
الأربعاء يناير 28, 2009 2:08 pm من طرف weboo
» القران كامل بصوت 15 قارئ
الأربعاء يناير 28, 2009 1:34 pm من طرف weboo
» تفسير القرآن الكريم كاملاً في 2 ميجا
الأربعاء يناير 28, 2009 1:30 pm من طرف weboo